عائشة العلوي
“يجب أن نساهم بدورنا في تخفيف ظروف الحجر الصحي على أهلنا بسرغين”… “أكيد أن السلطات ستقوم بواجبها، لكننا أبناء وبنات المنطقة وعلينا كجمعية محلية مساعدة ساكنة دوار سرغين، علينا إيصال الحاجيات الأساسية لهم/لهن ووضع سيارة الإسعاف رهن إشارتهم/هن”.. هكذا كانت البداية لتخفيف معاناة الساكنة التي تضم ما يقارب 162عائلة، وجلها تعيش وضعية الهشاشة والفقر بحوالي 141 عائلة، ازدادت تفاقما بعد التأثير السلبي للوباء على الأنشطة الاقتصادية المحلية. كما أنه وللأسف، أزيد من 22 منزل فارغ من مالكيه، تُركت طواعية لأسر أتت معظمها من المناطق المجاورة، يطلق عليها بالأمازيغية أمزداغ. أغلبية الأسر اختارت الهجرة إلى الخارج أو الاستقرار بإحدى المدن المغربية. لكن أزمة كوفيد-19، جعلت جل أبناء وبنات سرغين يتحدون ويتحدن للتضامن من أجل أهاليهم/هن.
“سرغين الواقعة بين قلعة مكونة وبومالن دادس من الضفة الشرقية لواد دادس هي قبيلتي وعشيرتي”… “سرغين، بلدتي الجميلة التي ترعرعت فيها وتلقنت أولى كلماتي وأحرفي الأمازيغية، فكيف لا أسرع لنجدتها؟”… هذا كان كلامه مع ابنتيه، الأولى في عقدها الثاني تعمل بإحدى الإدارات بالمهجر، والثانية طالبة في السنة الأولى جامعي. أثر هذا الكلام في ابنتيه، فسارعت كل واحدة منهما إلى بعث حوالات مالية إلى أهل سرغين رغم أنهما ازدادتا وترعرعتا بالمهجر…
كلمات مماثلة ومشاعر الانتماء للقبيلة وللوطن تغلغلت إلى جل مهاجري سرغين.. وما هي إلا أيام معدودات حتى توحدت الإرادة وتقاطرت آلاف الدراهم من الأموال على سرغين لمساعدة ساكنتها. بعيدا عن أي انتماء سياسي أو جمعوي تجمع الشباب والأصدقاء والأهل، نساءا ورجالا، لجمع التبرعات مستعملين/ات التقنيات الحديثة للتواصل. كان السؤال الصعب، كيف سيتم توزيع المساعدات؟ كيف سيتم تأمين الحاجيات الضرورية للعائلات طيلة فترة الحجر الصحي ودون انقطاع ؟
سرغين كقبيلة تابعة للجماعة الترابية الخميس دادس، تتزود بحاجياتها من سوقين رئيسيين: سوق قلعة مكونة وسوق بومالن دادس لشراء المتطلبات والحاجيات الأساسية للأسر. وكلا السوقين يتطلبان استعمال وسائل النقل، فكيف يمكن تقريب كل الحاجات الضرورية للحياة في زمن الحجر الصحي؟ لقد كان التحدي هو إيصال “القفة” إلى باب مسكن كل أسرة. فتشكلت لجنة “رقمية” لتدبير الأزمة مكونة من أهالي سرغين في الخارج وفي مدن داخل الوطن، تُعنى أساسا بالتنسيق واقتناء المتطلبات والحاجيات والتوثيق لأنه يجب أن يضطلع كل أبناء وبنات سرغين على الوضعية المالية ومراحل توزيع عملية التضامن والمساعدة بكل شفافية ونزاهة؛ ولجنة ميدانية تٌعنى بتوزيع المقتنيات وفق لائحة معدة سلفا للمستفيدين/ات من العملية. شفافية ودقة متناهية في الإعداد والإنجاز تُتَرجم كفاءة أطر سرغين، والأهم من ذلك كرم وطيبة أهلها. فعلا، لقد أبدع السرغينيون في التنظيم رغم ظروف الحجر الصحي بعيدا عن كل الأضواء.
سرغين سعيدة الآن لأن أبناءها وبناتها التفوا/التففن حولها أثناء الأزمة. رغم هجرتهم/هن، سرغين سعيدة لأنها أنتجت كفاءات في جل الميادين. إنهم/إنهن حتما عائدون/ات لزرع الأمل وخلق مشاريع تنموية لبناء مستقبل يليق بتاريخ سرغين بعيدا عن كل صراع وتطاحن انتخابي ضيق يريد تقسيم سرغين ونزع جدور التضامن والوحدة بين أهالي سرغين…
لقد ساهمت وفرة الأموال التي تم تجميعها من أهل سرغين بداخل المغرب وخارجه إلى توزيع الحاجيات الأساسية على جميع الأسر (إلا للذين رفضوا تسليمها). انخرط الشباب في العملية بكل روح المسؤولية والتضامن ملتزمين بالتعليمات الصحية الضرورية في زمن كوفيد-19.
مرة أخرى، تلتحم الأجيال، لتتقاسم فيما بينها التجارب. من جهة، هناك جيل يتقن الأساليب التكنولوجية الحديثة، فكان من السهل عليه تدبير مجموعات التواصل المحدثة في الواتساب التي كانت تضم جل السرغنيين المتواجدين في المدن المغربية وأولئك المتواجدين في الخارج: فرنسا، اسبانيا، هولندا، بلجيكا، برتغال، انجلترا، أمريكا وكندا، فكانت المجموعات تضم أزيد من 200 شخص؛ وخلف كل واحد منهم توجد عائلة. وتم عقد اجتماعات عديدة باستعمال تقنيات الرقمنة الحديثة للاستماع إلى كل رأي وترشيد النفقات. ومن جهة أخرى، جيل لازال يتذكر ويستحضر في سلوكه أعراف وتقاليد القبيلة، كيف كانت تُتخذ القرارات بين 6 عائلات أو ما يسمى ب”الفخضات” المكونين لها. عندما يكون الأمر مستعجلا، تُعين كل فخضة من القبيلة ممثلا لها ويتخذ القرار ب “رايْ دْ وَنَّاتيوفانْ” بمعنى الرأي الأقرب لتحقيق المصلحة العامة؛ منطق يتحكم أيضا عندما يكون الأمر أقل استعجالا، حيث يتم تعيين شخصين من كل فخضة في هذه الحالة؛ أما إذا كان الأمر أكثر أهمية ويتطلب البث فيه الرَّوِية وعدم الاستعجال، فإن كل فخضة تعين أربعة أفراد ليكون المجموع من سيتخذ القرار 24 شخصا. ليس التصويت مهم لأن الهدف ليس الأغلبية، بل الرأي الصائب. وكم من رأي لم يستطع البروز رغم أهميته وإمكانيته لتحقيق الرفاه الجماعي لأن التصويت لم يمكنه من ذلك. عُرف قَبلي يحمل من الحكمة في تسيير شؤون القبيلة الشيء الكثير حتى لا تكون هناك عصبية أو صراع. ألا يُلهمنا هذا العرف لإعادة التفكير في كيفية تسيير وتدبير شؤون الشأن المحلي والعام؟ ألا يُلهمنا هذا العرف لإعادة التفكير في قانون أغلبية الصناديق التي تسقط وتهمش كفاءات وآراء ربما ستساعدنا حتما على العيش المشترك في سِلم وعدل؟
كوفيد-19 بسرغين جعل شبابها الذي هاجرها أو الذي لا يعرفها يَحن إلى لقاءها في القريب العاجل ليحضن ذكريات أجداده ويشم عبق الأرض ورائحة التين والورود ويسمع خرير مياه النهر الذي يشق ضفتيها. كوفيد-19، قوَّى الانتماء للوطن، شباب وشابات لا يعرفن سوى لغة الأوطان التي احتضنتهم/هن في المهجر، ازداد شغفهم/هن لمعرفة هذه الرقعة الجغرافية البعيدة عنهم/هن التي ربما لم يصلوا/يصلن إليها يوما أو ربما لم تكن تشكل موضوعا يشغل بالهم/هن للتعرف عليها أو ذكريات تهيّج إحساسهم/هن للعودة إليها. مِن بين الكلمات والعبارات في الواتساب أو في الاجتماعات الرقمية، تحس بنبضات قلبهم/هن عندما تم الإعلان عن حملة التضامن والتآزر من أجل ساكنة سرغين… فلم يكن يتردد في صفحات المجموعات سوى كلمات “أنا مستعد لتقديم المساعدة…” أو “عند فتح الحدود، سأحضر زوجتي الغير المغربية وأبنائي لزيارة سرغين…” أو “سأفكر في مشروع يجمعني بأهلي وأرضي من جديد، سأفكر بمشروع فيه مصلحة عامة لساكنة سرغين…”
سرغين لم تكن يوما مقسمة أو مجزئة، لقد عاشوا على اتفاق ووئام… من حق شبابها وشابات الانخراط في العمل السياسي والمدني، ولكن دون تقسيم للقبيلة… لتكن مصلحة أهل سرغين فوق كل اعتبار … لتكن مصلحة الوطن فوق كل اعتبار..
شكرا لشباب وشابات سرغين، لقد منحونا جرعة أمل في المستقبل ورغبة للكتابة عنكم/كن… إن وطني حامل بالأحرار والحرائر … تانميرت
التعليقات مغلقة.