بعودة الملف الفلسطيني بقوة للمشهدية الدولية، تعود الفعاليات التضامنية مع الفلسطينيين، لكن وعلى عكس الإجماع حول محورية القضية الفلسطينية، بدأت تبرز أصوات تعزف على غير الوتر المألوف في التعاطي مع هذا الملف، أصوات منها من يعتبر أن قضايانا المحلية أولى بالتضامن من أي قضايا تخص غيرنا، ومنها من يدعو إلى القطع مع كل “الشرور” المقبلة من الشرق، وثالثة تتطرف حد تكرار السردية الصهيونية بخصوص الوطن القومي لليهود.
وأمام هذه الأصوات التي بدأت تتمرد على طوق “القداسة”، الذي لطالما كان محكما بخصوص هذه القضية، يذهب البعض للرد انطلاقا من وصمِ أصحاب هذه الآراء بالتصهين والعمالة، دون فحص دعاويهم واختبار دفوعاتهم، ودون طرح سؤال: لماذا حصل هذا الاختراق؟ وهل الذين يقدمون أنفسهم المنافحين عن القضية الفلسطينية (حد الاحتكار)، لم يرتكبوا أخطاء أساءت للقضية والمدافعين عنها؟
لا تحتاج القضية الفلسطينية إلى كثير دلائل لبيان عدالة مطالبها، كما لا يمكن لإنسان مشبع بالقيم الكونية للحداثة والديمقراطية والعقلانية أن يؤيد كيانا مثل “إسرائيل”، باعتبارها دولة دينية عنصرية استعمارية، فضلا عن كونها من بقايا القومية العنصرية في صيغة دينية قائمة على شرعية الأكاذيب التلمودية وأساطير الأصل النقي وخرافة “شعب الله المختار”، ومن هنا يكتسب النضال الفلسطيني فرادته في العالم من طبيعة محتله، ليصبح هذا النضال متجاوزا الصراع الأبدي بين صاحب الأرض والمستعمر، ليغدو عنوانا لمعركة كونية أوسع ضد العنصرية و”الأبرتهايد” وتصدير المشكلة اليهودية من أوروبا نحو “الشرق الأوسط” عبر زرع كيان هجين في تربة منسجمة هوياتيا ولغويا وثقافيا، فالقضية الفلسطينية تكاد تكون عنوان المواجهة ضد إمبريالية الدول الكبرى، وضد انحياز “عدالة’ مجلس الأمن الدولي، وضد انبعاث العنصريات القومية والدينية ضدا على مجرى التاريخ وتوق البشرية لعالم أكثر عدلا.
أسهبنا في تحديد موقع القضية الفلسطينية في خارطة نضال أحرار العالم، لنضع القضية في إطارها الإنساني المتجاوز للأطر التي تحصرها في أبعاد قومية عروبية أو دينية إسلامية، مما يفضي من حيث لا يظن أصحاب هذه الدعوات إلى تقزيم رمزية القضية .
هذا التقزيم ساهم إلى جانب عوامل أخرى في جعل القضية الفلسطينية تدخل خانة التوظيفات البئيسة في مشاريع ذات آفاق محدودة بعناوين أو دينية أو قومية.
لقد سبق لمستشار الملك “الهمة” أن ابتدع مقولة “تازة قبل غزة” في سياق تبرير عدم مشاركة الملك في قمة عربية خصصت لتداعيات عدوان إسرائيلي على القطاع، وتلقف المقولة من بعده من يصفون حساباتهم مع تيار معين عملا بالمقولة البئيسة “عدو عدوي صديقي”، وهكذا وجدت القضية الفلسطينية نفسها بين توظيفين متهافتين، توظيف قومي عروبي يهرب من التزاماته الوطنية في الدفاع عن قضايا الديمقراطية ومناهضة الاستبداد والفساد المحليين بحجة أولوية القضية “المركزية” للأمة، وتوظيف جزء (وليس كل) من التيار الأمازيغي يصفي حساباته ويصرف أحقاده ضد الاتجاه الأول عبر الدعوة إلى عدم التضامن مع الفلسطينيين بحجج واهية تفتقر أحيانا للذوق وتتصادم مع شعور أغلبية الشعب المغربي. يقع جزء من التيار الأول بجناحية القومي العروبي والإسلامي في تناقض حين يدين القمع الإسرائيلي، ولكن هذه “الروحية الأخلاقية” سرعان ما تتراجع للخلف حين يتعلق الأمر بالاستبداد المحلي أو بأنظمة قومية متسلطة لا يشفع لها سوى أنها مساندة للقضية الفلسطينية (أنظمة أساءت لفلسطين حين رافع حكام ديكتاتوريون باسمها في المحافل الدولية)، وفي هذا الوطن لم تنبس الأسماء التي تقف خلف مجموعة العمل الوطنية لدعم فلسطين ببنت شفة حول ما وقع بالريف على سبيل المثال لا الحصر، مما يجعلهم يعطون مبررات لأصحاب شعار “تازة قبل غزة”، وفي المقابل فإن أصحاب هذه الدعوة الأخيرة يقعون في تناقضات فاضحة، فمرة يزعمون أن فلسطين بعيدة عنا آلاف الأميال، لكنهم سرعان ما يتظاهرون بالأعلام الكردية وكأن “أربيل” على مرمى حجر منا، وأحيانا يتحدثون عن صلة الرحم باليهود المغاربة، دون الجواب عن سؤال: هل هم مغاربة أم إسرائيليون عادوا لأرض أجدادهم؟ لأن البداهة تقتضي فضح “إسرائيل” ومعها من تآمر من داخل النظام المغربي على تهجير أمازيغ من أرضهم عبر بيعهم في سوق نخاسة لا تختلف عن سوق نخاسة الأفارقة المهجرين قسرا نحو أمريكا.
لكن من يعميه الحقد، والحقد أسوأ موجه في السياسة، كما قال لينين، ينقاد لجعل بوصلته لا صوب “الحق والعدل”، بل في الاتجاه المضاد لخصمه بغض النظر عن موقف الخصم هنا وموقفه هناك. فالخصومة الإيديولوجية لا تعني انعدام فرصة الالتقاء الموضوعي.
ختاما: فشلت مسيرة الرباط المتضامنة مع الفلسطينيين لأن الداعين إليها خذلوا الشعب في محطات كثيرة من نضاله لأجل العيش الكريم، ونجحت مسيرة البيضاء، بعدها بأسبوع، لأن الواقفين وراءها لم يتخلفوا عن الانخراط في معارك مناهَضة الفساد والاستبداد.
التعليقات مغلقة.