لم يعد الشيخ بعد ظهور الشريط الذي سماه المواطنون شريط “لغة الشيخات” ضميرا مستترا بالمعنى الأعرابي بل ظاهرا مثل صخرة الشاعر امرئ القيس التي حطها السيل من عل، وبمعنى آخر فإن هذا الشيخ لم يستفد من مثل أمازيغي يقول: “أن الفم المغلق لا يدخله الذباب” ولا من مثل عربي يقول أيضا: “لسانك حصانك أن صنته صانك وإن خنته خانك” لماذا؟ لأن من استمع إلى شريط سيلاحظ أن الشيخ كان في حالة قصوى من التوتر وكأنه يواجه عدوا سيسلبه أملاكه أو مكانته فيتدحرج مثل جلمود الصخر. لقد كان حقا في حالة رعب حقيقي لا يسعنا إلا أن نشفق لحاله لأنه برهن في لحظات كثيرة أنه لا يقوى على المواجهة، بل أن جل ما يقدر عليه هو هذه الألفاظ النابية التي خرجت من فم شخص يشتعل حقدا وضغينة لم تسعفه في الحفاظ على وقاره وهو المعروف بعلمه الراسخ وحرصه الجبار على جعل المدينة التي يسكنها تضج بالمساجد وكأن لسان حاله يقول مسجد لكل مواطن، ولم نفهم مصدر تلك الأموال التي يتصدق بها محسنون لا يعرفهم أحد إلا الله الواحد القهار. حتى أن أي مواطن من ساكنة هذه المدينة يحق له أن يتساءل لماذا لا يحق لهؤلاء الهلاميين أن يبنوا مستوصفا أو ثانوية لأبناء الأحياء الفقيرة حتى تكون هذه المدينة مثلا يحتذى في المزج بين الدنيا والآخرة بين مملكة السماء ومملكة الأرض. أليس الدين دنيا وآخرة. هذه حكاية طويلة وحبلها قصير ولن أقف عندها طويلا ! وإن كانت مرتبطة بما سيأتي لاحقا !
وإما الحكاية الاخرى فأروم من ورائها إلى تمثل هذه الشخصية في صورتها الكاملة حتى لا يظلم الرجل من لدن “العوام” الذين وصفهم ذات يوم بأنهم مجرد بياعين الزريعة والكاوكاو.
من الظلم في حق هذا الرجل أن نرى جانبا واحدا من عقدته تجاه الامازيغية التي ترجمت إلى سب واحتقار في حق فئة اجتماعية “الشيخات”. إن من خبر هذا الكائن عن قرب سيدرك أنه يتصرف وفق منطق “العلم” الذي اكتسبه، هو علم موروث سطره “الأسلاف” منذ أربعة عشر قرنا، وباسم هذا العلم يريد ادعياء هذا الزمن فرض الوصاية الأبوية على الشعوب، وذلك بعد أن أمموه وصار ملكية خاصة بهم لا يمكن أن يتلوث بالخطاب المدنس الذي يتعاطاه أصحاب الحلقة أو الشيخات. هذا هو المنطق الحمزاوي، وإذا جاريته فإنك ستفقد 99% من مقدرتك العقلية. أيها الفقيه المحترم يجب أن تعرف إن العقلية المغربية التي خططت للدنيا الحضارية – التي أصبحت الآن مجرد تجمعات فوضوية أو مجموعة من القرى من زمن حداثتنا المعطوبة – راعت فيها حاجيات المجتمع ومن ضمنها الجانب الثقافي الذي كان جزء منه يمارس في فضاء مغلق من لدن النخبة (المسجد – العلماء الذين أصبحوا جزء من علية القوم) بينما الجزء الآخر فقد كان يمارس في الفضاءات المفتوحة أو الساحات التي لا زالت شاهدة – وأن بشكل خافت طبعا – على التواصل الثقافي الحي لم نستطع بعد استثماره من أجل تأسيس ثقافة مغربية حقيقية لا ثقافة الاستلاب، وهذه الظاهرة ظاهرة الثقافة المغلقة في الفضاء المغلق مقابل ثقافة الشعب في الفضاءات المفتوحة بدون حواجز ولا ممنوعات، هي ظاهرة مرتبطة بكل الحضارات، وإذا كان فقيهنا يحتقر ثقافة الحلقة فلأن هذه الثقافة التي نسميها خطا “الشعبية” بصورة عامة – تضع الثقافة السلطوية المتعالية كبرياء وعجرفة موضع السخرية والتساؤل. وقد انتبه كبار الكتاب العظماء في أوربا القرون الوسطى وعصر النهضة من مثل بوكاشيو وسرفانستين ورابليه إلى ما تزخر به ثقافة الكرنفال أو الضحك الشعبي من دلالات رمزية لا حدود لثرائها الدلالي وخصوبتها الفكرية، ويكفي أن نستحضر في هذا المقام الجنس الأدبي الموسوم بالباروديا المقدسة Parodia sacra التي كانت الوجه المقابل للطقوس الدينية الرسمية، مثل الوصايا البارودية ك”وصية الخنزير” “وصية الحمار”، بل إن الأعياد “الشعبية” كانت تقابل أعياد الميلاد مثل عيد المغفلين، إن هذا التوجه الثقافي كما يقول م.باخنين كانت تكرسه التقاليد الموروثة وتتسامح معه الكنيسة إلى حد ما. (انظر كتاب باختين: أعمال فرانسوا رابليه والثقافة الشعبية).
هل تسمح ثقافة “العلم الموروث” بالضحك الشعبي؟ لا طبعا. انظر إلى الوجوه التي تحترف مهنة التبليد، إنها عابسة عبوسا قمطريرا. إن الذي يحرم الموسيقى والغناء وينظر إلى الأنثى نظرة شهريار إلى أخوات شهرزاد لا يمكن إلا أن يكون عابسا بل عدوانيا. من النبات يتفاعل مع الموسيقى. أن شهرزاد المثقفة والعالمة هي وحدها القادرة على ترويض الوحش الكامن في قلب شهريار العدواني ! كان قاتلا فأصبح زوجا !.
إن الذي يهاجم “ثقافة الحلقة” والفنانة الأمازيغية، بل الثقافة الأمازيغية بصورة عامة، يريد أن يحول ساحات مدننا العريقة من كونها ساحات الفرجة والضحك الكرنفالي إلى ساحات الإعدامات وقطع الرؤوس والأيادي ورجم “المرأة الزانية” كما هو الحال في بعض دول الخليج.
لقد أفصح شيخنا عما يؤمن به ويراد له أن ينتشر بين مريديه وهم في الأعم الأغلب من ذوي التكوين التربوي المحدود عوضوا حرمانهم من مقعد في المدرسة أو الجامعة بحضور دروس تروج لخطاب الكراهية لا في اتجاه الغرب “الكافر” واليهود الملاعين فحسب” بل بين أبناء الوطن الواحد على أساس النظر إلى الإنسان، لا باعتباره مواطنا بل مؤمنا أو كافرا، هذا النمط من التفكير أو السلوك الغابوي لا بد من هزيمته لا بالسكين أو أي شكل من أشكال العنف، لأن هذا العنف لم يسهم في بناء أية حضارة، بل كان سببا مباشرا في الخراب. ومن أجل تحويل هذا الخطاب الكريه إلى ذكرى سيئة لابد من تأسيس خطاب ديموقراطي تسهم فيه القوى الحية في البلاد وفي طليعتها الحركة الأمازيغية التي لا يمكن حصرها في تلك المطالب الصغيرة التي أشار إليها شيخنا في تحفته الهجائية، خطاب يتمحور حول ثقافة الاختلاف، بل حول الحق في الاختلاف، والوحدة في التنوع، والأيمان بأن الديموقراطية لا يمكن أن تتحقق إلا على أساس المواطنة وتحقيق كرامة الإنسان، ثم إن هذه الحركة أيها المحترم أسمى من أن تحشر في الإثنية أو العرق، ومن ثم فإن ما يحدوها هو الخروج من حال هذا الفصام الجماعي المتحلى في كيان وطن تاريخي متوسطي ولكن ذو رأس ثقافي لا يستقيم وهذا الكيان، الفصام الجماعي ثم الاستلاب ذلك ما تناضل الحركة الامازيغية باعتبارها حركة وطنية ذات بعد حضاري ترفض سرقة تاريخ البلد وتشويهه ثم تحويله إلى بيت من الكذب كبير، واما شطحات الفقيه الحمزاوي فهي عنوان لخطاب يتهاوى وقبل السقوط تنتابه حالة من الهستيريا التي تفقد صاحبها الاتزان العقلي والتوازن النفسي مما يدل على أن الخطاب الأصولي هو خارج التاريخ، وإن كان من حقنا استئناف القول بتأكيد مسؤولية الأنظمة المستبدة على استفحال هذا الخطاب الذي يمثل في الوقت الراهن كارثة حقيقية من خلال وجود نظام تعليمي يقوم بتفريغ عقول مهيأة لممارسة العنف الأصولي، والحاضنة الطبيعية لهذا العنف هي المدرسة والجامعة، ومن هنا نجد العناية بانتشار المدارس ذات الطابع التقليدي، والأدهى والأمر أن تتحول الجامعة إلى مكان للترويج للفكر المنغلق والمتخلف وشيطنة كل من لا يلحق بالقطعان أثناء ممارسة الطقوس، وهذه القطعان تستقوي بالكثرة لمحاصرة كل من يحمل فكرا نقديا بل خلق متاعب له عن طريق تصنيفه في خانة “الألحاد”، قد يبدوا هذا غريبا بالنسبة لإنسان يوجد خارج الجامعة، ولكن الواقع أكثر مرارة مما نتصور.
ودعوني فقط أسرد لكم هاتين الواقعتين أو بالأحرى الحكايتين خبرتهما في المؤسسة الجامعية التي ينتمي إليها الفقيه الحمزاوي. في بداية التسعينات لاحظت تغيرا في سلوك الطلبة بدء من المظهر وانتهاء بتفاهة التفكير والخطاب الممجوج حول أسلمة المعارف والعلوم، بل بدأ الفقيه الحمزاوي يسرب بيادقه إلى الشعب، كل الشعب لاحتلال المواقع وخاصة رئاسة الشعبة حتى انه تجرأ على أساتذة شعبة لا ينتمي إليها وذلك بفرض مادة اسمها “نظرية الأدب الإسلامي”. لقد وقف البعض منا ضد هذه الوصاية وحاولنا التذكير بأن سيدهم “قطب” نفسه لم يتجرأ في كتابه النقد الأدبي على الإشارة إلى وجود هذه المادة، بل خصص فصلا ممتازا في كتابه المذكور لمدرسة فرويد في النقد. والعجب العجاب أن يقوم هذا الشخص بتهديد كل من عارض تثبيت هذه المادة فظلت تدرس لأفواج وأفواج، وأنجزت – ما شاء الله – بحوث وبحوث لا بد أنها رفدت مؤتمر الأدب الإسلامي العالمي الذي أشرقت شمسه من “سيدي امعافة”؟؟؟
وأما الحكاية الأخرى – وليعذرني القارئ الكريم – فلا تقل مرارة عن الحكاية السابقة، لقد حاولت مع زميلين تنظيم ندوة فكرية حول “المغرب المتعدد” من خلال أعمال المرحوم عبد الكبير الخطيبي، وقمنا بصياغة محاور الندوة فشرعنا – بتنسيق مع عمادة الكلية – في مراسلة بعض الباحثين، أخبرنا الأستاذ المرحوم الخطيبي وسر للفكرة وأرسل لنا لائحة بمرافقيه من ضيوف الندوة، فجأة وقف أحد الزميلين ضد تنظيم هذه الندوة، والسبب أن الشيخ العلامة استدعاه وحذره من مغبة تنظيم هذه الندوة على اعتبار أن الخطيبي يهودي (نعم هكذا !!) وزار إسرائيل !. وأقف هنا وأترك القارئ يتأمل هذا السؤال: أليس صادقا ما قاله أحد الكتاب الجزائريين حينما وصف جامعات بلاده بأنها غير موجودة أو أنها مجرد دور الحضانة للكبار !!.
نعم من حق المتفيهق أن يهاجم الأمازيغية بهذه العبارات البذيئة، لأن الخطاب الذي تحمله والنضال من أجل مبادئ الحقوق الكونية والإنسانية، وفي مقدمتها حرية المعتقد والديمقراطية اللتين تزعجانك أنت وأمثالك من الدين ترتبط بهم روحيا ويحرمون كل شيء، يحرمون مصافحة النساء ويحتقرون “الشيخات” ولكنهم في مجال النكاح “أبطال”: مثنى وثلاث ورباع، بل إن أمثاله هناك في مرابض السيف والنخلة سينظمون ندوة سيناقشون فيها كينونة المرأة: هل هي إنسان.. نعم صدق الشاعر إذ قال “إلا الحماقة أعيت من يداويها”.
ولقد بحثت في ما قاله هذا الشخص عن جملة واحدة تنتهي إلى مملكة العقل فلم أجد إلا سلسلة من الحماقات التي يأخذ بعضها برقاب البعض. لقد أمر الأمازيغ مثلا أن يتخذوا ابن تومرت باعتباره امازيغيا نموذجا لهم.
انهي إلى علمك أيها المحترم أنني شخصيا لا أعرف أمازيغيا واحدا مؤمنا بالحوار الديموقراطي يمكن أن يتخذ ابن تومرت على الرغم من كونه أمازيغيا نموذجا، وهذا هو الفرق بيننا وبينكم انتم عبدة السلف – وما أدراك ما السلف الصالح – أنت بحكم تفكيرك يمكن أن تتخذ طاغية مثل خالد بن الوليد نموذجا لأنه لقب بسيف الله المسلول وسيرته تدل على أنه مجرم حرب، كما أن الأصل الأمازيغي لابن تومرت لا يمنعك من اتخاذه نموذجا على الرغم من حقدك على الأمازيغية، لسبب جلي هو أن هذا “الإمبراطور” كان يحمل فكرا أصوليا متطرفا ميالا إلى العنف، ولقب نفسه في بداية دعوته بالمهدي، وسن شريعة تصفية المرابطين، وكانت التهمة جاهزة مثل زمانك هذا: فساد أخلاقهم وربط العلاقة بالأمراء المسيحيين الموسومين بالزنادقة. هذه هي التهمة الجاهزة صالحة في كل زمان ومكان !! وأضيف إلى علمك أيضا انه على الرغم من تطرف الموحدين فإن التاريخ لا يمكن أن يتنكر لبعض محاسنهم خاصة تلك المرتبطة باحترام الفكر الفلسفي، وهذا ابن طفيل صاحب القصة المعروفة بعيش في كنف الخليفة أبي يعقوب، بل هو الذي قدم ابن رشد لهذا الخليفة (أنظر كتاب موريس – روبين حيون: Maïmonide ou l’autre moïse ص 70 – 72).
أسأل القارئ الكريم – وحتى المثقف الصامت – هل أدركنا حجم الكارثة التي تحدق بنا بسبب رهط من الفقهاء لم يعرفوا من زاد الفكر غير ابن تيمية وسيدهم قطب والقرضاوي ومفتي البيترودولار وتابعيهم وتابعي تابعيهم: بسبب هؤلاء أصبحت الشعوب الإسلامية من أتعس الشعوب على وجه الأرض، كل الشعوب تفرح في مواطن الفرح وتأسى في زمن الأسى، إلا شعوبنا التي تأسى وتحزن حتى في مواطن الفرح، الفرد عندنا حينما يضحك دقائق محسوبة يقول: “اللهم اجعل العاقبة بخير” كما كتب ذات يوم كاتب ليبي في نهاية السبعينيات من القرن الماضي. ومن هنا فإن السيد الحمزاوي على حق حينما يحتقر الفن الغنائي لأن أمثال هذا الشخص لا يحسنون ثقافة الفرح، ثقافة الرقص الإنساني، ثقافة الغناء، ثقافة الفرجة، هل رأيتم أيها السادة لحية “حمورابي” الذي يفتخر البعض بسنه القوانين أول مرة في التاريخ، وننسى أن جزء كبيرا منها كان متوحشا حيث كانت المرأة المتهمة يتم إغراقها في نهر دجلة، ولو تأتى للبعض في هذا الزمن الرديء أن يعدم المغنيات الأمازيغيات وغيرهن لما تردد في ذلك.
هذا الخطاب البائس لا يفضى إلا إلى فائض من الحقد والكراهية لاتجاه الأمازيغية فحسب، ولكن تجاه أي فكر نقدي حر، ومن ثقافة العنعنة وخرافات الدهور والأكاذيب، وفتح الأبواب (أدوات التواصل الحديثة) أمام هذا الخطاب التدجيني في غياب حضور سلطة المثقف النزيه والمستقل، وفي غياب جبهة ثقافية مضادة للفكر الوهابي، وفي غياب الحرية الفردية في المدرسة والجامعة والأسرة، وفي غياب الديموقراطية وحقوق الإنسان، ستتسع فضاءات الحرية والظهور للقطعان الوهابية التي حولت الشباب، بل جيلا من الشباب إلى كائنات تبحث عن “الموت الجميل” تعبيرا عن حقدهم الدفين نتيجة للاعتقال الثقافي (حميد زناز: فصل الكلام في مواجهة أهل الظلام. ص 155).
هذا ما يجب أن ننتبه إليه وأن نستحضر في هذا المقام تلك الفكرة الجميلة التي صاغها ذلك الفيلسوف الذي حول الميتافيزيقا إلى فلسفة التاريخ، فقد رأى “هيجل” أن مهمة الوعي هي أن نفهم ما جرى، وهذا الفهم هو سبيل الإنسان إلى تحقيق المصالحة مع الواقع كما أن هدفه هو العيش في سلام مع العالم (Annah Arendt : la crise de la culture p : 17). نعم يجب أن نفهم الماضي (ما جرى)، فالماضي كما قيل بحق ليس ماضيا، الماضي القريب فقط بعد أن قررت بعض الأنظمة المتأسلمة إرسال قطعان المجاهدين العرب إلى أفغانستان انخراطا منهم في تجسيد الشعار الأمريكي مقاومة الخطر الأحمر، وقبل هذا حارب المغاربة “المزاليط” الجمهوريين مع الحاج فرانكو، الجهاد ولا شيء غيره ضد أي كان ومع من كان وفي أي مكان ! هزلت والله هزلت حينما يحتل الجهلة الفضاء العام لنشر الحقد والكراهية.
الأستاذ: موسى اغربي
التعليقات مغلقة.