آش واقع
حل الرئيس الإسرائيلي إسحاق هرتسوغ، اليوم الأربعاء بأنقرة، في زيارة يراد لها في المقام الأول إحياء العلاقات السياسية المتصدعة مع تركيا، وذلك باعتبارها الأولى لرئيس إسرائيلي إلى تركيا منذ سنة 2007، ما يؤشر على أن العلاقات التركية- الإسرائيلية ستدخل منعطفا جديدا تحت عنوان “شراكة استراتيجية في خدمة مصالح مشتركة”.
وتستأثر هذه الزيارة، التي تم التحضير لها قبل عدة أشهر على أعلى مستوى، والتي سبقتها تصريحات مرحبة لدى الجانبين، بمتابعة سياسية وإعلامية مكثفة، ليس لكونها تأتي في سياق تحولات كبيرة تشهدها المنطقة والعالم فحسب، ولكن لكونها تتزامن مع الأزمة الروسية- الأوكرانية وما لها من تداعيات سياسية واقتصادية، ولو أنها كانت مقررة قبل انطلاق العملية العسكرية بأوكرانيا.
فخلال الـ 14 سنة الأخيرة، شهدت العلاقات السياسية التركية- الإسرائيلية أزمات متتالية اتسم بعضها بالحدة، كما عكستها التصريحات شديدة اللجهة والمواقف المتباينة على المستوى الدولي، لكنها لم تصل حد القطيعة الكاملة بين الدولتين. الخلافات السياسية لم تكن لتقطع المبادلات الاقتصادية بين البلدين التي ظلت متواصلة رغم الجفاء السياسي.
وحسب معطيات لمجلس المصدرين الأتراك، ارتفعت صادرات البلاد إلى إسرائيل خلال العام الماضي 35 بالمئة، وبقيمة إجمالية بلغت 6,4 مليارات دولار، مضيفة أن قيمة الصادرات الإسرائيلية إلى تركيا خلال العام المنصرم بلغت ملياري دولار.
وأفادت المعطيات ذاتها بأن صادرات تركيا إلى إسرائيل زادت خلال أول شهرين من العام الجاري 33 بالمئة مقارنة بالفترة نفسها من 2021، وبلغت قيمتها مليارا و357 مليون دولار.
كما تؤكد هذه الزيارة، التي تمتد ليومين والتي يلتقي خلالها هرتسوغ بنظيره التركي رجب طيب أردوغان لبحث ملفات هامة ومعقدة، منها واردات أوروبا من الغاز الذي استأثر باهتمام كبير بعد التوتر الروسي- الأوكراني، أن المصالح الاستراتيجية للبلدين قادرة على جعلهما يتجاوزان الخلافات السياسية وتباين المواقف بشأن العديد من القضايا الإقليمية والدولية، وذلك في ما يمكن أن يطلق عليه بالتعاطي “المرن” مع التطورات الإقليمية والدولية.
وفي مقدمة هذه التطورات المتسارعة وغير المتوقعة للنزاع الروسي- الأوكراني، ولا سيما بحث كل الدول المعنية بالغاز والنفط الروسيين عن تأمين بدائل، علاوة على ذلك فإن الاهتمام الكبير لدول حوض شرق المتوسط بثروة النفط والغاز، “تجبر” تركيا وإسرائيل على تطوير علاقاتهما الثنائية، الأمر الذي يضفي على وتيرة توصل الأطراف المعنية إلى تفاهمات مشتركة دينامية أكبر.
من جهتها، تحاول تركيا الاستفادة من الموقف الأمريكي المعارض لمشروع خط أنابيب “إيست ميد” لنقل ما بين 9 و11 مليار متر مكعب من النفط والغاز سنويا من الاحتياطيات البحرية لحوض شرق المتوسط قبالة قبرص وإسرائيل إلى اليونان ودول أخرى جنوب- شرق أوروبا عبر خط أنابيب الغاز “بوسيديون” و”إي جي بي”. فتركيا تعتبر أنه لا يمكن تجاوزها في أي مشروع لنقل الغاز في شرق المتوسط، كونها تمتلك أكبر امتداد بحري فيه، وكون “إيست ميد” سيخترق جرفها القاري، فيما ترى واشنطن أن المشروع له حمولة سياسية أكثر منها اقتصادية، وأنه كلفته المادية والبيئية أكثر من منافعه الاقتصادية.
وترى أنقرة في غياب الضوء الأخضر الأمريكي لمشروع نقل الغاز والنفط إلى أوروبا إشارة لترك الباب مفتوحا أمامها للاضطلاع بدور في نقل الغاز إلى أوروبا، وإعادة ترتيب العلاقات مع دول الحوض، في محاولة لكسر طوق حولها م ش كل من عدة دول، من بينها إسرائيل.
كما أن هذه الزيارة تندرج في استراتيجية تركيا لتصفير مشاكلها مع دول الجوار، التي تمت مع الإمارات، وفي طريقها مع السعودية ومصر واليونان وأرمينيا، بينما تسعى جاهدة للوقوف على الحياد في الأزمة الأوكرانية- الروسية في محاولة للعب دور الوسيط، خاصة وأن الأنظار تتجه إلى مدينة أنطاليا التركية التي من المتوقع أن تستضيف على هامش منتداها الدبلوماسي أول قمة ثلاثية رفيعة المستوى منذ اندلاع الأزمة، تجمع وزراء الخارجية الروسي والأوكراني والتركي للتفاوض بشأن حل نهائي للنزاع يحظى بقبول الطرفين.
وفي سياق ذي صلة، يمكن القول بأن هذه الزيارة تشكل فرصة لتنسيق هذه الوساطة، بالنظر إلى أنه في الأيام الأخيرة استأثرت أنقرة وتل أبيب بالحيز الأكبر من الجهود الدبلوماسية الحثيثة بين كييف وموسكو في محاولة لإيجاد مخرج سريع لهذا النزاع.
وفي إشارة إلى التهدئة لطي صحفة الخلاقات استبقت الزيارة تصريحات إيجابية غير أنها اتسمت بالحذر من المبالغة في توقعات نتائج كبيرة، فقبيل مغادرته إسرائيل، قال هرتسوغ إن “العلاقات بين إسرائيل وتركيا مهمة لإسرائيل ومهمة لتركيا، وللمنطقة بأسرها”، مشددا على أن “علاقة إسرائيل وتركيا شهدت فترات صعود وهبوط ولحظات صعبة في السنوات الأخيرة، سنحاول إعادة بناء العلاقات بطريقة مدروسة وحذرة، (…) لن نتفق على كل شيء”.
أما مكتب الاتصال في الرئاسة التركية، فقد ذكر في بيان بدا وكأنه تجنب الخوض في التفاصيل، أن الرئيس الإسرائيلي يزور تركيا بدعوة من أردوغان ليومين، سيتم خلالها تناول إعادة النظر في العلاقات التركية- الإسرائيلية بكافة جوانبها، وتطوير التعاون، فضلا عن تبادل وجهات النظر حول مستجدات القضايا الإقليمية والدولية.
ومن المؤكد أن السياق الجيوسياسي الدولي الجديد يلزم تل أبيب وأنقرة بالتقارب وتطوير التعاون بينهما، فالمنطقة تشهد اصطفافات جديدة يحكمها بالنسبة لتركيا ملف الطاقة والتنقيب عن النفط والغاز شرق المتوسط، واقتراب استحقاقات انتخابية حاسمة وكسب ثقة إدارة بايدن، وبالنسبة لإسرائيل تحقيق المزيد من الانفتاح الدولي وتحسين علاقتها مع الجوار والاستفادة من الظرفية الحالية التي تظهرها كفاعل أساسي في المنطقة.
التعليقات مغلقة.