نبيذ اللّيالي الدافئة.. (2)

أسامة بوكرين 

 

 

تُشبِهني صورة الطفل على الحائِط، كانت عالية جداً لدرجة أنني لا أستطيع الوصول إليها وقوفاً على قدماي، وكان هذا عُنوة من بلال، هذا الشاب الذي وضَع تلك الصورة منذ اليوم الذي دخَل فيه إلى بيتِنا السحري، وألصقها عالياً على الحائط كي لا تمسّها يَد الشيطان.. وأخبرنا أن نبتعِد عنها وإلا طاردتنا الأرواح الشريرة مدى الحياة.. ولكُثرِ ما سمعنا جملة “بعدّو من ديك التصويرة” أضحينا لا نقترِب من الحائط الذي وُضعَت عليه لا إرادياً..
كشف لي بلال ذاتَ مرة أن تِلك الصورة لشقيقِه الأصغر، وهي جالِبة حظٍ ستمنع حسب قولِه دخول رجال الشرطة أو أصحاب النوايا السيئة إلى المنزِل.

لكن ما قصة شقيقه هذا ؟ كان بلال كثيرَ البكاء، مع الكأس الثالث، ينهار باكيا ويهروِل إلى تِلك الصورة، يضَعُ كرسياً، يمتطيه ويقبّلها كثيراً وهو يشهَق من شدة البكاء ويكرّر “الله يرحمَك ا خويا الله يرحمك ا حبيبي”.. ومع الكأس السادس أو السابِع يعود ليحدّثنا عن قصة وفاة أخيه في حادثة سيرٍ بعد أن كان قادماً من مشاهدة مباراة لفريق النادي القنيطري في الخميسات، وكان بلال يكرَه الخميسات، بل يمقتها، ويتمنى لو استطاع يوماً أن يزيلها من الخريطة.

تغتالُني ذِكراها كطيفِ شبحٍ يقترِب مني ليقطِف روحي.

وتغتالُ بلال ذِكرى شقيقِه الأصغر كأن شيئاً غير الدمِ كان يجمعهما.

هكذا كانَ دائماً صديقي التعيس يختتِم جلساتَنا بالكثير من البكاء بعد أن يحكي لنا عن انهيارِه يومَ أشعَره أحد رفقاء شقيقه في الليلة المشؤومة عن تعرّض حافلة سريّة كانت تقِلهم لحادثة سير قرب مدخَل المدينة.. قضى المسكين أياماً في مصحة للطب النفسي وهو يتعالَج من آثار وفاة شقيقه، كان يحبّه جداً، ويعتبِره ابنه، وهو من أورَثه حبّ “حلالة بويز” ومدرجات الملاعِب المغربية.. لهذا كان دائماً يتذكرّه، ويعتبِر أن ما وقع له هو ما تبقى من حظّه السيء.. لهذا كان يضع صورته فوق رؤوسنا، ويقول أن الحظ السيء كلّه أخذه شقيقه الذي توفيّ قبل أن يبلغ 18 من عمرِه.

لَم يكن بلال صاحِب نكتَة كما كريستوف.. وكانا دائما يقِفان على النقيض، أحدهما يفرَح بكلّ شيء، والأخر تعتليهِ تعاسَة قديمة لَم يجِد دواءها، لكنّهما كان صديقين جداً، وعلاقتهما أقرب من علاقتي بهما معاً، رغما أنهما تعرّفا على بعضِهما عن طريقي.

أبعَدتُ عينايَ بسرعةٍ عن تِلك الصورة، كانت ماريا وحدها قُربي رغم أن عقلي ساحَ في بلال وقصته مع شقيقه وكريستوف، لمَسَت شفاهِي بأصابعها وقالت “اااح على شنايف” كانت دائما ما تتغزّل في فمي وتعتبِره باباً تريد دخوله دون عودة، وكنت أسايِرها في غزلِها الشاذ ونضحك سوياً على ما قالَته وما قُلته ونعود إلى حياتنا..
ما أحلى أن يستفيق المرء في كلّ مرة على وجهِ ماريا الجميل هذا، إنها شخصٌ يستحِق أن يُعبَد جنسياً حقاً.. قبّلتني على جبيني، وساعدَتني على الوقوف بعد أن كُنت نائماً في الأريكة التي لطالَما أحبّتها..

يُتبَع..

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.