عقار المخيم الدولي بآسفي.. عندما تتحول الأملاك الجماعية إلى مشاريع خاصة بقرارات صامتة
تحقيق صحفي / محمد ماكري
يتصاعد الجدل في مدينة آسفي حول مصير “المخيم الدولي”، أحد آخر المتنفسات الجماعية وأغلى الممتلكات العقارية الواقعة على الواجهة البحرية، بعد ظهور مؤشرات قوية على شروع المجلس الجماعي في إجراءات ترمي إلى تسويقه لفائدة مشروع خاص، تروج له لافتات منمقة تتحدث عن “أكاديمية بينيفيكا” و”الأكاديمية الأمريكية“.
المثير في هذه القضية ليس فقط طبيعة العقار ولا المشروع المقترح، بل الطريقة التي يتم بها تمرير الملف، في غياب تام للنقاش العمومي، وضبابية تامة حول الآليات القانونية والمؤسساتية التي تؤطر العملية، وتبدل واضح في مواقف بعض المنتخبين بشكل يطرح أكثر من علامة استفهام.
مشروع قديم يعود بواجهة جديدة
الملف ليس وليد اليوم. فقد سبق طرح مشروع مشابه خلال فترة الرئيس السابق نورالدين كموش، وكان الاسم المرتبط بالفكرة آنذاك هو خالد الشاكنا، الذي لا يزال حاضرًا بقوة ضمن الواجهة الحالية للمشروع. حينها، قوبل المشروع برفض واسع واعتُبر محاولة لتفويت عقار جماعي استراتيجي تحت غطاء استثمار رياضي غامض، في ظل غياب أي ضمانات.
لكن المفارقة أن الملف اليوم يُعاد طرحه بنفس الأشخاص تقريبًا، ونفس الفكرة الجوهرية، ولكن بمصطلحات جديدة، ودعم صامت من أصوات كانت حتى الأمس القريب من أشد المعارضين. لا حديث عن التفويت، بل عن “الشراكة“، لا نقاش حول القيمة العقارية، بل عن “جلب الاستثمار الأجنبي”، ولا صوت يرتفع للاعتراض.
مقرر في عهد كموش.. لا تفويت ولكن تأهيل
بعد العودة إلى الوثائق، تأكد أن الملف قد مرّ فعلاً بمقرر رسمي صادر عن المجلس الجماعي بتاريخ 3 فبراير 2022 (رقم 06/2022)، صودق عليه بأغلبية 32 عضوًا، وينص على تأهيل المخيم الدولي الكائن بحي اجنان، في إطار شراكة مع القطاع الخاص، بتنسيق مع المركز الجهوي للاستثمار.
المثير في المقرر أنه لا يشير إلى أي عملية تفويت أو بيع للعقار، بل فقط إلى مشروع تأهيل، في إطار ما سمي بـ”طلب اهتمام دولي”، أي فتح الباب أمام شركات دولية متخصصة لتقديم مقترحات ومشاريع قابلة للنقاش والتطوير.
وفق المعطيات المتوفرة، سبق للمجلس الجماعي أن كلّف المركز الجهوي للاستثمار بإطلاق ما يُعرف بـ “طلب اهتمام دولي” (Appel à Manifestation d’Intérêt)، وهي مرحلة قانونية تسمح بجلب عروض مبدئية من شركات دولية لإعداد دراسة أو مقترح مشروع لتأهيل المرفق.
وبينما يُقدَّم الأمر على أنه مسطرة استكشافية أولية، يرى بعض المتتبعين أن هذه المرحلة تُستعمل أحيانًا كغطاء لتهيئة الرأي العام لقبول استثمارات قد تُخرج المرفق من طابعه العمومي.
أكاديمية بينيفيكا: فرنشايز أم إشراف فعلي؟
تروج بعض الأخبار أن المشروع المرتقب بأكاديمية بنفيكا يدخل ضمن نظام “الفرنشايز”، أي ترخيص تجاري يسمح لمستثمر محلي باستخدام اسم النادي وشعاره، مقابل التزام بنقل فلسفته التدريبية والتربوية.
في هذا النوع من العقود، لا يكون لنادي بنفيكا أي استثمار مباشر، بل مجرد شراكة في العلامة. وهنا تُطرح علامات استفهام حول من الجهة الحقيقية المستثمرة؟ وهل سيتم الحفاظ على وظيفة المخيم كمرفق ذو طابع دولي؟
ما يزيد من حجم الشكوك هو أن أكاديمية “بنفيكا” المعنية بالمشروع لا تظهر في أي موقع رسمي للنادي، كما أن الفريق الصحفي قام بمراسلة كل من النادي البرتغالي والأكاديمية الدولية دون أن يتلقى أي رد لحدود الساعة.
بالعودة إلى تجارب سابقة في بلدان كمصر، والكويت، وكندا، يتبين أن أغلب “أكاديميات بنفيكا” عبر العالم تُدار بنظام “الامتياز التجاري – Franchise”، أي مجرد ترخيص تجاري لاستخدام العلامة، دون إشراف تقني مباشر من النادي، ولا ضمانات لتخرج لاعبين محترفين.
مدرسة النخبة فوق أرض الشعب
في جانب موازٍ، يُروَّج داخل المشروع لما يسمى بـ”الأكاديمية الأمريكية“، وهي مؤسسة تعليمية خاصة، ذات كلفة باهظة، تتراوح رسوم التسجيل السنوية بها بين 7 و14 مليون سنتيم، ما يجعلها حكرًا على أبناء الطبقة الميسورة.
وهنا يُطرح السؤال: هل من المعقول منح عقار عمومي بموقع استراتيجي لفائدة مشروع تعليمي غير عمومي، لا يستهدف عموم الساكنة، بل فقط فئة محظوظة من السكان؟
وهل من أولويات المدينة تعزيز الخصاص في التعليم العمومي، أم فتح المجال أمام مشاريع نُخبوية على أراضي الشعب؟
الجماعة تعترف… ثم تتراجع
في خضم هذا الجدل، نشرت الصفحة الرسمية لجماعة آسفي بلاغاً توضيحيًا جاء فيه أن “الخبر عارٍ من الصحة”، وأنه “لا وجود لأي تفويت”. وأكد البلاغ أن اللقاء مع المستثمر كان مجرد لقاء تواصلي، يعكس انفتاح الجماعة على الاستثمارات الوطنية والدولية.
غير أن المفاجأة الكبرى، والتي زادت من ارتباك عموم الساكنة الأسفية ، هو قيامها بحذف البلاغ من صفحتها الرسمية بعد ساعات من نشره، دون أي توضيح أو نشر بلاغ بديل. ما فتح الباب أمام تأويلات جديدة حول وجود انقسام داخل المجلس أو محاولة لإخفاء شيء ما.
لا عروض، لا منافسة، لا دراسات منشورة
أخطر ما في الملف، هو الغموض التام في مراحل تدبيره. فإلى حدود الساعة، لم يُعلن المجلس الجماعي عن أي دفتر تحملات مفصل، ولا توجد دراسة جدوى منشورة للرأي العام، ولا وثائق تشير إلى كيفية تقييم العروض أو ضمان التوازن بين المصلحة العامة والطموح الاستثماري.
وما يتم تسويقه إلى حدود الساعة، هو فقط تصاميم دعائية، وتصريحات مبهمة، وحضور إعلامي منتقى بعناية، دون دعوة الرأي العام أو الفاعلين المدنيين لمناقشة المشروع أو مساءلة مآلاته.
الذاكرة لا تُباع… والمحاسبة مطلوبة
لا أحد يعارض فكرة الاستثمار الجاد، ولا إنشاء مشاريع رياضية وتعليمية ذات جودة. لكن تحويل عقار جماعي تاريخي بهذا الحجم إلى مشروع تجاري خاص، دون حماية المصلحة العامة، ودون نقاش مجتمعي صريح، يفتح الباب أمام أسئلة مشروعة حول المسؤولية، والمآلات، والنوايا.
المخيم الدولي ليس فقط بقعة أرضية شاسعة، بل هو جزء من ذاكرة مدينة، ارتبط في وعي الأجيال بمحطات تربوية ووطنية وإنسانية. وأي تدخل عليه يجب أن يتم بشفافية، وتحت أعين الجميع، وليس عبر صفقات مغلقة أو “تأهيل” ملغوم يفضي إلى خوصصة ناعمة.
غضب على مواقع التواصل: من يملك حق التصرف في ذاكرة المدينة؟
منذ أيام، تضج صفحات التواصل الاجتماعي في آسفي بعشرات التدوينات والفيديوهات، التي تستنكر بشدة ما اعتبره النشطاء “تدبيرًا غامضًا” و”تفويتًا مقنعًا” لعقار جماعي حيوي.
العديد من الصحافيين، الفاعلين الجمعويين، وسكان المدينة عبّروا عن استيائهم، ورفضوا تحويل المخيم الدولي إلى مشروع ذي طابع تجاري/نخبوي، مشيرين إلى رمزية هذا الفضاء وارتباطه بذاكرة المدينة وأجيالها.
“لا أحد يملك الحق في التصرف في ذاكرة المدينة بهذا الشكل”، تقول إحدى التدوينات التي حصدت آلاف التفاعلات.
ما الذي نعرفه الآن؟ وما الذي نخشى أن يحدث؟
أن هناك مقررًا رسميًا وُقّع سنة 2022 ينص على شراكة لتأهيل المخيم.
أن المركز الجهوي للاستثمار أوكلت له مهمة البحث عن مستثمرين دوليين.
أن شركة أو أكاديمية (تزعم ارتباطها ببنفيكا) زارت آسفي، في سياق هذا المسلسل.
أن الجماعة تحاول التملص إعلاميًا من مسؤولية ما يجري، بل وتحذف بلاغاتها الرسمية.
خاتمة: من حق الجميع أن يرد
في غياب الوضوح المؤسساتي، ومع ضعف التواصل الرسمي من طرف الجماعة، تبقى الأسئلة أكثر من الأجوبة: هل نحن أمام مشروع تأهيل حقيقي؟ أم أمام تفويت ناعم لمرفق عمومي طالما احتضن أبناء المدينة؟ وهل ستراعي هذه المشاريع مستقبل الطفولة والحق في التخييم؟
فريقنا المهني يلتزم بنقل المعطيات كما هي، وقد حاولنا التواصل مع جميع الأطراف، سواء الأكاديمية أو النادي أو الوسطاء، دون رد.
ويبقى حق الرد مكفولًا لجميع المعنيين، ونأمل أن تقدم الجماعة وكل الجهات الرسمية توضيحات للرأي العام بكل شفافية، في انتظار بلورة رؤية واضحة لمستقبل هذا الفضاء الذي يشكل مفخرة لمدينة آسفي منذ عقود.
ويبقى حق الرد مكفولًا للجميع، ومرحّبًا به في إطار الشفافية والمصلحة العامة.