مقال رأي / محمد الدحاني
مقدمة
سأخصص هذه المقالة للإجابة عن سؤال: هل يمكن بناء مواطن جديد بالشروط والبنيات القديمة؟ وقبل تحديد خصائص هذه الشروط وطبيعة هذه البنيات نتساءل أولا: لماذا التفكير في بناء مواطن جديد؟ وما هي مواصفاته؟ وهل هذا يعني أن المواطن الحالي يعاني خللا يجب اصلاحه؟ وهل يمكن اصلاح المواطن الحالي دون إعادة النظر في السياسات العمومية والسياسات التربوية؟ هذه الأسئلة الحارقة تعكس الرغبة في إعادة صياغة مشروع مجتمعي جديد واضح المعالم والأهداف ومتوافق حوله بين كل مكونات وحساسيات المجتمع. وبما أن هذا النوع من الخطاب يدخل في خانة الوجوب وليس الوجود، فإننا سنؤجل الحديث فيه الى خاتمة المقالة.
وسنكتفي الآن بتشخيص الشروط والبنيات أو على الأقل بعض مظاهرها السلبية، لنبين في الأخير أنه يستحيل بناء مواطن جديد بالشروط والبنيات القديمة.
أولا: بناء المدراس أول شرط لبناء مواطن الغد.
كما يعلم الجميع أن المغرب يعاني خصصا مهولا في حجرات الدرس، وفي جميع المسالك الدراسية، ولا أكبر دليل على هذا القول ظاهرة الاكتظاظ المدرسي، فجل الأقسام في المدارس العمومية يفوق عدد تلامذتها أربعون تلميذا وتلميذة، في الوقت الذي توصي فيه الهيئات الدولية المهتمة بقضايا التربية والتعليم بألا يتجاوز عدد تلامذة القسم خمسة وعشرون تلميذا، حتى يمكن للعملية التعليمية التعلمية أن تحقق أهدافها البيداغوجية والديداكتيكية.
هذا في ما يخص العالم الحضري، أما العالم القروي، أو ما يسمى بالمغرب المنسي، فهو لازال منسي الى حدود الساعة فعلا. فالمدارس الابتدائية في هذا المجال أو على الأقل في جزء منه تشبه الكهوف، فأغلبها يفتقد للشروط الضرورية، أي لا يوجد فيها لا كهرباء ولا ماء ولا مراحيض، بالإضافة إلى أبواب ونوافذ مكسورة، وسقوف مخرقة، وجدران مشقوقة، أما الطاولات فهي تكاد تكون متلفة بالكامل ونفس الشيء يقال على السبورة ومكتب المعلم، والحديث هنا خاص بالفرعيات التابعة للمركزية التي يوجد فيها مكتب المدير.
أؤكد أن هذه المؤسسات لازالت منسية فعلا من طرف الدولة، لأن المسؤولين لا يقومون بزيارتها، وهنا لا أتحدث عن المسؤولين الكبار، فهؤلاء مشغولون بزيارة ومواكبة دراسة أبنائهم في البعثات الأوروبية والأمريكية، والوقت المتبقي لديهم يخصصونه لإحياء حفلات عيد ميلاد خليلاتهم داخل الفنادق المصنفة أو على اليخت البحري. فالحديث هنا فقط عن أولئك المسؤولين الذين يوجدون في ذيل ترتيب السلم البيروقراطي. والذين يركزون في زيارتهم الميدانية -إن وجدت- على المركزيات التي تكون في غالب الاحوال قريبة من الطريق العام او توجد بفيلاج تتوفر فيه بعض شروط الحياة اليومية، وبعض الاحيان يطلب من السادة الاساتذة الانتقال او الالتحاق الى المركزية، لذلك فتلك الزيارات التي تكون من أجل عملية المراقبة والتقييم تحول دون ذلك، حيث لا يتم الوقوف على حقيقة طريقة إلقاء الدرس، وكيفية تسيير القسم وتفاعل التلاميذ مع أستاذهم من جهة، ورصد البنيات المهترئة التي في الغالب تهدد السلامة الجسدية للأستاذ وللتلاميذ من جهة ثانية.
إذا كان القانون يفرض على المسؤول المراقب الزيارة الميدانية، فإن بعضهم يعفي نفسه منها لأسباب وحده يعرفها، لذلك وبصفته الرئيس الذي يأمر مرؤوسيه بالانتقال إليه، والمرؤوسين يقبلون بهذا الفعل وإن كان خارج القانون. وبما أن هذا الأخير في مثل هذه الوضعيات قد يعيق سير المؤسسة بل وقد يهدد الأساتذة في لقمة عيشهم، وخاصة الأساتذة المتعاقدين، حيث أن مصدر عيشهم ومصيرهم المهني والعائلي مرهون بيد ومزاج رؤسائهم. وللحفاظ على هذه الامتيازات/الحقوق أو لكي يعززوا حظوظها أكثر فهم يتواطؤون بخرق القانون ويعوضونه بالمعاملة الاجتماعية. لذلك يتفق السادة الأساتذة وينسقون مع بعضهم في اقتسام تكلفة وجبة الغذاء أو العشاء على شرف السيد المدير أو المفتش في أفضل مطعم بالفيلاج القريب لتلك الفرعية أو بمنزل صديق لهم يسكن به.
والأمر مع كامل الأسف لا يقف هنا، فهذه المدارس في أيام العطل تتحول الى مسكن للمجانين والسكارى والمنحرفين من الدواوير المجاورة، فبعضهم يجدها مكانا آمنا وخاصة في الليل لاستضافة عاهرة أو لجلسات حميمية مع جماعة الأقران لتدخين الحشيش أو شرب الخمر بعيدا عن أعين أهل الدوار. وهؤلاء في الغالب هم من يقومون بتخريب الأدوات والوسائل اللوجيستيكية كتكسير الطاولات والسبورات والأبواب والنوافذ وأي شيء قابل للإتلاف، وحين لا يجدون شيئا قابلا للإتلاف يتبولون ويتغوطون ويتقيؤون فيها قبل أن ينصرفوا الى حال سبيلهم. وكأن بسلوكهم هذا ينتقمون من هذه الأقسام التي تخلت عنهم في سن مبكرة أو لم تستضفهم أصلا.
ولترميم خسائر هؤلاء المنحرفين الذين هم في النهاية ضحايا فشل المنظومة التعليمية، يتطوع في أغلب الأحيان السادة الأساتذة ومن مالهم الخاص بترميم واصلاح ما يمكن اصلاحه على الأقل داخل حجرة الدرس، وبعضهم يطلب من التلاميذ جمع قدر مالي، وفي الغالب لا يتعدى خمسة دراهم لكل تلميذ، وفي المقابل يتطوع أهل الدوار، لوضع سياج سلكي للمدرسة على الأقل يمنع المواشي وبعض الحيوانات الأخرى من الاقتراب لمحيط المدرسة وغيرها من الأمور البسيطة، وهذا الأمر يتكرر كل سنة وأحيانا أكثر من مرة في السنة، لأنهم يعلمون أن الدولة لا يمكن أن تقدم لهم شيئا، ونفس الشيء يستشعره السادة الأساتذة، لذلك هم يتضامنون جميعا وكل واحد حسب قدرته لتوفير الحد الأدنى من الشروط التي تسمح بفعل التمدرس. فكيف يمكن إذن بناء مواطن جديد بمدرسة تفتقد لأبسط الشروط؟ وقد لخصناها في الاشارات السابقة، والتي يمكن أن نضيف إليها، مشكلة الأقسام المختلطة، ونقص الموارد البشرية، فتكاد تجد في جميع الابتدائيات والاعداديات بالعالم القروي تلاميذ لا يدرسون مادة أو أكثر بسبب قلة الموارد البشرية، لأن السادة المديرين يحاولون أن يوفروا ذلك للأقسام الإشهادية.
وهكذا يصبح الحديث عن المدرسة العصرية، المجهزة بآليات لوجيستيكية وتكنولوجية في العالم القروي ضرب من ضروب الخيال والمستحيل، وجائحة كورونا زادت في تعرية هذا الواقع المرير، واكتشفنا أن جزء من هذا العالم القروي يفتقد لشبكة الهاتف، وهذا يعني أنه لا يجوز الحديث عن صبيب الأنترنت، أي أن التعليم عن بعد في هذه المناطق يفتقد لشروطه الموضوعية، وهذا ما سيعفينا من الحديث عن الشروط الذاتية المرتبطة أشد الارتباط بعجز الأسر في تحمل مصاريف التعبئة.
ثانيا: بناء مواطن الغد رهين بمراجعة المناهج والبرامج الدراسية.
كما لا يخفى على كل متتبع لقضايا التربية والتعليم، أن المناهج والبرامج الدراسية تعكس الفلسفة التربوية للسياسات العمومية، وخاصة مواصفات المواطن المنشود. وهذه النقطة تحديدا تجعلنا نتساءل عن نقطتين أساسيتين: الأولى متعلقة بمضامين الكتب المدرسية، والثانية مرتبطة بالتكوين المستمر للأساتذة.
يحدد الخطاب التربوي الرسمي، مواصفات مواطن الغد، في كونه يؤمن بقيم العقيدة الاسلامية، وقيم الهوية الوطنية بمختلف روافدها، وقيم المواطنة، وقيم حقوق الانسان. هذه هي مواصفات المواطن الصالح بلغة الخطاب الرسمي، أو المواطن المزدوج بتعبير رحمة بورقية أو المواطن الجديد بتعبير ماريا مونتيسوري. أي أن نظامنا التربوي لم يعد مطالب بتكوين مواطن صالح لمجتمعه ولوطنه فحسب كما كان يعمل في السابق، وإنما أصبح الآن مطالب ببناء مواطن صالح للعالمية أيضا. أو باختصار، فمواطن الغد هو مواطن مزدوج الانتماء، فهو ينتمي لوطنه ومعتز بخصوصيته الثقافية والحضارية، وفي الآن نفسه منتمي للكونية، أي مستبطنا لقيم الكونية كمشترك انساني. هذا المزج والتوليف بين منظومتين قيميتين مختلفتين على مستوى المرجعية يطرح إشكالات تقتضي مساءلتها سوسيولوجيا. بمعنى كيف يمكن للتلميذ أن يستدخل قيم هاتين المنظومتين المتباينتين في المرجعية؟ وكيف سيعيد تصريفها في سلوكاته؟ عموما، موضوع هذه المقالة غير مخصص للإجابة عن هذه الأسئلة التي نعاهد القارئ المقتدر بالعودة لمعالجاتها في المستقبل.
بالرجوع الى النقطتين المشار إليهما أعلاه، يجب أن نتساءل هل مضامين الكتب المدرسية تحتوي على قيم المواطنة وحقوق الانسان، لتحقيق الشطر الثاني من مواصفات مواطن الغد، أي الانتماء للعالمية، والانسان لا يمكن أن ينتمي للعالمية إلا إذا تشبع بثقافة وقيم هذه المنظومة. وإن كانت مضامين الكتب المدرسية تحتوي على قيم المواطنة وحقوق الانسان، فيجب أن نعمق السؤال أكثر، ونتساءل حول كيفية وطبيعة وجودها؟
وحسب نتائج بعض الدراسات التي اشتغلت على هذا الموضوع، فإن مضامين الكتب المدرسية فعلا تحتوي على قيم المواطنة وحقوق الانسان. لكن الهدف من الدرس لا يكون ترسيخ هذه القيم، وإنما يكون شكل آخر إما معرفي أو تقني، فمثلا، قد تجد نص حول قيمة الحرية، لكن المطلوب من التلميذ، ليس معرفة الحرية كقيمة من قيم حقوق الانسان يجب أن يدرك مضمونها عقلا، واستشعار قيمتها وجدانا ومحاولة إعادة تصريفها سلوكا، وإنما الهدف من الدرس هو تقسيم النص الى فقرات أو اقتراح عنوان جديد للنص وغيرها من الأسئلة المرفقة لمثل هذه النصوص في الكتب المدرسية بمختلف أنواعها وفي جميع المستويات والأسلاك الدراسية.
أما النقطة الثانية والمتعلقة بالتكوين المستمر للأساتذة، تصوروا معي، أن السادة الأساتذة، لم يدرسوا قيم المواطنة وحقوق الانسان كوحدات خاصة، لا في الجامعة ولا في مراكز التكوين، وفي نفس الوقت نطلب منهم أن يساهموا في ترسيخ واستنبات قيم المواطنة وحقوق الانسان في فكر ووجدان وسلوك التلاميذ. وخاصة أن أغلب هذه القيم توجد في هذه المضامين بكيفية مضمرة وليست صريحة؟ إذن كيف يمكن للأستاذ الذي لم يدرس هذه القيم ولم يتلق أي تكوين مستمر في هذا المجال أن يستطيع استخراج قيم المواطنة وحقوق الانسان من مضامين الكتب المدرسية؟ بل وكيف سيعمل على نقلها من مضامين الكتب وترسيخها في فكر ووجدان وسلوك التلاميذ؟
لهذا يجب علينا ألا نتفاجأ حين تخبرنا خلاصات بعض الدراسات السوسيولوجية بأن أغلب نساء ورجال التعليم لا يعرفون شيئا عن منظومة حقوق الانسان وقيم المواطنة، بل أغلبهم لم يسبق أن سمع أو اطلع حتى على الاعلان العالمي لحقوق الانسان، بل والسواد الأعظم منهم يجهل مضمونه العام، علما أن النظام التربوي المغربي أدمج قيم المواطنة وحقوق الانسان في فلسفته التربوية منذ تسعينات القرن الماضي.
هذه المعيقات وغيرها هي التي أنتجت لنا، مواطنين يتغنون بقيم المواطنة وحقوق الانسان على مستوى الخطاب لكن على مستوى الممارسة والسلوك متشددين جدا، أو هم “دواعش في مرحلة الكمون”، وكدليل على هذا الوصف، نسوق بعض الأمثلة: هل يقبل المغاربة الافطار العلني في رمضان من غير المسلمين؟ هل يقبل المغربي أن يتزوج أو يزوج ابنه أو ابنته لشخص مسيحي أو يهودي أو لاديني أو ملحد؟ وهل يقبل المغربي أن يتزوج أو يزوج ابنه أو ابنته من شخص شيعي المذهب؟ هل يحترم المغاربة حرية ملكية الجسد لبناتهم وأخواتهم؟ طبعا لا يمكن أن نجيب على مثل هذه الأسئلة إلا بالنفي. وهذا يعكس في العمق فشل المنظومة التربوية منذ التسعينات في بناء مواطن مزدوج الانتماء، أي يؤمن بقيم التسامح والاختلاف والعيش المشترك وحرية الضمير.
هذا الفشل راجع في نظر المهتمين الى أن مخططات السياسة التربوية لا تبنى انطلاقا من خلاصات وتوصيات الدراسات العلمية الميدانية، وإنما تبنى انطلاقا من مشاورات خبراء وتقنيين وعلى خلاصات بعض التقارير السطحية في أحسن الأحوال، وفي الغالب تبنى انطلاقا من هواجس إيديوسياسية وأمنية.
خاتمة
نشدد في الأخير أنه لا يمكن بناء مواطن الغد بالشروط والبنيات القديمة، لأن هذه الشروط وهذه البنيات وغيرها مما هو ليس موضوع هذه المساهمة، هي الأسباب الرئيسية في تدهور وتدني المستوى التعليمي في بلدنا. وهذه الحقيقة مع كامل الأسف يشهد بها الكل، الحاكمين والمحكومين، والهيئات السياسية، والنقابية، والجمعوية، وكذلك الأطر المفكرة، بل حتى أولياء و آباء التلاميذ فضلا عن تنظيمات الطلبة والأساتذة. وهذا هو الذي يدفع الأساتذة في الامتحانات الإشهادية خاصة في السادس الابتدائي والثالثة اعدادي الى تقديم الاجابات للتلاميذ على السبورة أثناء الامتحان ليساهموا في الرفع من نسبة النجاح كميا لا نوعيا.
وهكذا وشيئا فشيئا ومع مرور الزمن يستبطن التلاميذ قيم الفساد، بل ويتمأسس عندهم سلوك الغش، الى درجة أنهم ينظرون الى الغش كحق من حقوقهم، وهذا نراه كثيرا في تصريحات التلاميذ بعد امتحان البكالوريا، فبعضهم يقول: “صراحة الأساتذة زوينين تعاملوا معنا مزيان، وبعضهم يقول العكس”، والمعاملة في سياق الكلام لا تفيد تقديم المساعدة في اطار القانون، أي شرح بعض مضامين الأسئلة الغامضة أو الملتبسة في نظر البعض، وإنما تعني بالتحديد خرق القانون ومساعدة الممتحن في الحصول على النجاح إما بالسماح له بالغش أو بالإجابة له مباشرة على أسئلة الامتحان أو بعضها.
وحصيلة هذه “المعاملة” كانت ولازالت هي انتاج مواطنين يؤمنون بالخرافة، والاتكالية، لذلك أغلب التلاميذ يصبحون مواظبين على الصلاة عند قرب الامتحان، يظنون أن الصلاة وحدها ستساعدهم على النجاح، والحقيقة أنه إن كانت للصلاة فائدة فإنها ستفيد صاحبها في الدنيا والأخرة شريطة التقيد بالعمل الصالح، فالامتحان يحتاج الى مجهود ذهني وبدني يومي. وبعضهم لا يكتفي بالصلاة والتضرع بالدعاء من أجل أن ييسر الله له النجاح في الامتحان، بل يذهب قبل الامتحان بيوم إلى أحد المشعوذين لإعداد “الحروزة” والتمائم، لأنه يعتقد في قدرتها على مساعدته في الافلات من ضبط لجنة المراقبة أثناء عملية الغش في الامتحان، بل البعض الآخر يظن أن هذه التمائم لها القدرة في التأثير ايجابيا حتى على المصحح.
ما نود قوله من الاشارات السابقة، أن المواطن الحالي الذي يتصف بالاتكالية، والزبونية، والمحسوبية والرشوة سواء تعلق الأمر بحقوقه أو بواجباته هو نتاج للشروط والبنيات القديمة، ولإصلاحه يجب أولا اصلاح هذه الشروط والبنيات، أو بعبارة واحدة “مواطن الغد يجب بناءه انطلاقا من بنيات وشروط جديدة”.
التعليقات مغلقة.