في زمن تتراجع فيه علاقة الأجيال الجديدة بتراثها، خرج نسيم حداد من الصمت.
لم يأتِ ليدافع عن الماضي، بل ليجعله ممكنًا من جديد.
لم يخاطب النوستالجيا، بل أيقظ شعورًا كان نائمًا في عمق الهوية.
فكان أن اجتمع حوله جمهور لم يكن معنيًا أصلًا بالعيطة.
وحدث ما لم يكن في الحسبان: تصالح جيل بأكمله مع صوتٍ ظنّه لا يشبهه.
خلف حضوره المسرحي الهادئ، بلباسه الأسود وصوته العميق، يقف رجل لم يكن يومًا ابن الصدفة.
اسمه العلمي محفوظ في أرشيف المركز الأوروبي للأبحاث النووية CERN، حيث ساهم في أكثر من 612 بحثًا علميًا ضمن تجربة ATLAS، إحدى أرقى التجارب العالمية في فيزياء الجسيمات.
لكنه ترك كل ذلك. ليس هربًا من الصرامة، بل بحثًا عن معنى. عن نَفَس آخر، وعن صوت قادم من بعيد اسمه العيطة.
مشروعه لم يكن مجرد عودة إلى التراث، بل بناء جسر جديد بين الأجيال.
وهكذا وُلدت Ayta World Tour: مشروع موسوعي–فني استثنائي، جمع بين الكتابة الموسوعية، العرض المسرحي الغنائي، والمعرض المتنقّل.
والنتيجة؟ جمهور متنوّع، من الأكاديميين إلى الشباب، من المحترفين إلى من لم يسمع العيطة من قبل.
وبالأرقام: كل السهرات الكبرى، من باريس إلى الرباط، ومن الدار البيضاء إلى أمستردام، بيعت بالكامل.
وفي امتداد لهذا النجاح، يستعد نسيم حداد لإحياء سهرة كبرى يوم السبت 5 يوليوز، في الساحة الكبرى لموروكو مول بالدار البيضاء، والتي تُعدّ حتى الآن أضخم سهرة مخصصة لفن العيطة في التاريخ المغربي الحديث.
السهرة، بتصوّرها التقني والبصري، وحجم الجمهور المتوقع، لا تمثل محطة احتفالية فقط، بل لحظة رمزية تُكرّس حضور العيطة في الفضاء العمومي الحضري، كفنّ يستعيد مكانته خارج الصور النمطية.
ليس هذا ضجّة مؤقتة، بل أثر طويل.
فالذي كان يُنظر إليه كصوت خاص بـ “الشيخات”، أصبح فجأة مادة حيّة في وسائل التواصل، وعلى المسرح، وفي قلب النقاشات الفنية.
عاد الشباب إلى التراث، لا كواجب، بل بشغف.
وصارت “العيطة” فجأة قريبة، جذرية، وعصرية.
لم تكن استعادته للعيطة تقليدًا، بل تأويلًا.
ولم تكن سهراته ترفيهًا، بل لحظة مسرحية كثيفة تُستعاد فيها الذاكرة بالصوت والجسد والضوء.
أما كتابه التأسيسي، موسوعة العيطة، والمقرّر صدوره في شتنبر من العام الحالي، فليس تجميعًا، بل بناء جديد للمعنى، قائم على تحليل، وشهادة، وشغف.
من Opéra Berlioz إلى مسرح محمد الخامس، ومن Grand Rex إلى القاعة المغطاة محمد الخامس، نجح نسيم حداد في إحداث نقلة نوعية في البنية الفنية المغربية.
ليس فقط لأنه غنّى، بل لأنه أعاد الثقة إلى تراث كان منسيًا، أو محرجًا، أو مُسطّحًا.
نسيم حداد لا يقدّم فنًا جاهزًا، بل يعيد تشكيل علاقتنا بما كنّا عليه.
وحين يغنّي، لا يستعرض صوته، بل يُصغي لشيء فينا كنّا قد نسيناه.
الصوت الذي تصالح معه جيل: من هو نسيم حداد؟

تعليقات
0