عندما أفرغ من تصفح بعض الجرائد، أفكر فيما قاله الفنان الفرنسي الساخر پيار ديپروج بشأن إحدى صحف اليمين المتطرف: “أن تقرأ صحيفة “مينوت” أَرْخَص لك من قراءة سارتر: بثمن جريدة تحصل على “الغثيان” و”الأيدي القذرة”!
“الغثيان” مضمون في الصحافة المغربية بمجرد قراءة العناوين، و”الأيدي القذرة” متوفرة في الأسواق، تكتب وتنهش في الأعراض على امتداد الصفحات، من جريدة لأخرى. بعض اليوميات باتت تشبه محاضر شرطة من كثرة ما تنشر من الجرائم والمحاكم والكوميساريات. الصحافة تحتاج إلى هواء نقي يسمى “الحريّة”، والجو العام في البلد لم يعد صالحا للتنفس، ولعل التهديد بالانقراض الذي تعيش على إيقاعه الصحافة المكتوبة بشير خير في النهاية، لأن “إكرام الميت دفنه”. المأساة أن الجرائد الورقية تموت وتترك مكانها لوسائل التواصل الاجتماعي وللمواقع الإلكترونية التي تتناسل كالفطر، ومعظمها لا يعدو أن يكون صفحة شخصية أو “بلوگ” أو منشورا لبث الإشاعات ونهش أعراض الناس، تحت عناوين مضحكة من قبيل: “عاجل وفضيحة وسكوب وها علاش وها كيفاش وهافوقاش”… وهذا لوحده سبب يجعلك تتشبث بالصحافة الورقية، رغم أنها وصلت إلى الحضيض.
وإذا كانت مبيعات الجرائد في كل أنحاء العالم تتناقص، وكثير منها يغلق أو يتحول إلى العالم الافتراضي، فإن الصحافة الورقية لن تنقرض، رغم ذلك، الصحيفة ستعيش طويلا بخلاف ما يبشر به حفارو القبور، ومن يستعجلون الدفن ومن ضاقوا ذرعا بـ”الأيدي القذرة”… التلفزيون لم يقض على الراديو، والإنترنيت لن يقضي على الجريدة!
الوضع أكثر تعقيدا مما يبدو للوهلة الأولى، لأن الجريدة ليست أخبارا وتحليلات وحوارات وأعمدة، فحسب، بل هي أوراق وحبر قبل كل شيء. حتى لو بلغت أقصى درجات الذكاء، يصعب على التكنولوجيا أن توفر لك خشخشة الورق ورائحة الحبر، التي تختلط مع رائحة القهوة في الصباح، وكثيرون لا يمكن أن يبدؤوا نهارهم من دون صحيفة “حية”، تطوى وتتمزق وتقتل الحشرات. وليس أكثر إغراء من رجل في مقهى “يخرج من معطفه الجريدة وعلبة الثقاب”…
ثم إن نوافذ البيوت مدينة للجرائد بلمعانها. أنجع وسيلة لمسح الزجاج هو ورق الجريدة مغموسا في الخل. ليس أي ورق، بل نوع معين يستعمل فيه حبر قديم. أما ورق المجلات الصقيلة فلا يصلح. الجرائد لن تموت لأنها تصلح أيضا للهش على الذباب في الصيف. عندما تكون مستلقيا وقت القيلولة وتزعجك أسراب الحشرات… هل يمكن أن تقتلها بـ”التابلات”؟
الجرائد لن تموت، لأنها تصلح لتغليف قناني الكحول. كل أنواع البيرة وقناني الويسكي والفودكا والروج، تنتهي “مكمشة” في ورق الجرائد. دون الحديث عن الوظيفة “الكلاسيكية” للجريدة التي تجعل “الأخبار” تختلط مع “القطْعة” في محلات “الگلاية”. الصفحات تتحول إلى أوعية مرنة تملأ بالزريعة والكاوكاو واللوز والكركاع والبيستاش…
وهناك فصيلة على طريق الانقراض، مازالت تحرص على قص المقالات التي تسترعي اهتمامها في الصحيفة والاحتفاظ بها، مثل تحف نادرة. قص المقالات يذكرني دائما بجريدة “العلم” في بدايات التسعينيات. كنا مجموعة من “المتعاونين” مع اليومية نزور الصديق مصطفى حيران في مكتبه بشارع مولاي سليمان وسط الرباط، حيث كان يقص المقالات من المجلات الفرنسية، ويعطينا إياها كي نترجمها ونحصل على مقابل في آخر الشهر. مقالات في السينما وفي الأدب والموسيقى والرياضة وعن الحيوانات والطيور النادرة… تجد مكانها في صفحة يومية كان اسمها “من كل الآفاق”. كان مكتب حيران يعج دائما بالمجلات الفرنسية: “پاري ماتش”، “ڤي إيس دي”، “ليكسبريس”، “حدث الخميس”، قبل أن يصبح اسمها “ماريان”… وكان في يده “كيتور”، ما إن يراك حتى يشهر سلاحه ويقطع المقال. في الغد نأتيه بالترجمة “الفورية”، التي “تُترجم” في نهاية الشهر إلى حزمة من النقود!
التعليقات مغلقة.