أش واقع تيفي / سيدي بنور
في كل موسم لجني وتصنيع الشمندر السكري، تتحوّل مدينة سيدي بنور ونواحيها إلى فضاء خانق تختلط فيه الروائح الكريهة بأصوات احتجاج صامت ينبعث من صدور آلاف المواطنين المتضررين من تداعيات هذا الكابوس البيئي، الذي تمثّله منشأة صناعية ضخمة تُدعى “كوسومار”. هذا المعمل، الذي يُفترض أن يكون رافعة للتنمية ومصدرًا للفخر المحلي، أضحى عنوانًا دائمًا للمعاناة ومصدرًا رئيسيًا للتلوّث والإقصاء.
رغم قربه من مقر عمالة الإقليم، على بعد كيلومتر واحد فقط، إلا أن صمت المسؤولين وتجاهل الجهات الوصية زاد من حدة الغضب الشعبي، الذي لم يعد مقتصرًا على الروائح الخانقة التي تعمّ المدينة بل تجاوزها إلى اتهامات مباشرة للمعمل بالتنصل من المسؤولية الاجتماعية والبيئية.
الروائح الكريهة.. سموم معلنة في هواء المدينة
مع انطلاق عمليات التصنيع، تعمّ أرجاء المدينة رائحة نتنة أشبه ما تكون بمستنقعات آسنة أو مجاري صرف صحّي مفتوحة، تفترش الأحياء والفضاءات العمومية، وتخترق نوافذ البيوت، مخنقة أنفاس المرضى والمسنين والأطفال، خصوصًا في الأحياء القريبة من المعمل، مثل حي “القرية” الذي يعتبر الأكثر تضررًا. أحد السكان، ويدعى فضّول الفايز، يصف الوضع بكونه “معاناة يومية لا تنتهي”، ويشير إلى أن مرضى القلب والربو يجدون أنفسهم محاصَرين بتأثيرات بيئية خطيرة، دون أدنى مبادرة إنسانية من إدارة المعمل.
حفرتان للتجويف.. وجه سيدي بنور أمام الزوار
على الطريق الوطنية رقم 7، وقبل حتى أن يدخل الزائر المدينة، تصطدم حواسه بروائح مقززة تنبعث من حفرتين كبيرتين خصصتهما “كوسومار” لتجميع النفايات السائلة الناتجة عن عملية تصنيع الشمندر. تحيطهما سياجات معدنية ولافتة تحذيرية، وكأن إدارة المعمل تستبق ردة فعل الزائر لتقول: “هذا واقع المدينة فاعتد عليه أو غادرها”. واقع يدفع بالعديد من السكان إلى مغادرة منازلهم نحو مدن مجاورة هربًا من “الخنز” الذي يلازمهم طيلة موسم الإنتاج.
اختناق مروري وبنية تحتية مدمّرة
ليست الروائح وحدها من تحاصر سكان المدينة، بل تضاف إليها معضلة الشاحنات والجرارات التي تملأ الشوارع ليلاً ونهارًا، محمّلة بحمولات ثقيلة تفوق قدرة الطرقات المهترئة أصلًا. هذه الشاحنات لا تلتزم بقواعد السير، وتشكّل خطرًا يوميًا على التلاميذ والمارة، كما تتسبب في حوادث قاتلة. المدينة التي لا تتوفر على طرق مهيأة ولا إشارات مرورية كافية، تتحوّل خلال موسم الشمندر إلى ساحة فوضى عارمة، تضاعف من المعاناة وتجعل من مشهد التنمية سرابًا بعيد المنال.
تشغيل مشروط وإقصاء ممنهج
رغم ضخامة أرباح “كوسومار” في سيدي بنور، إلا أن شباب المدينة لا يستفيدون من فرص الشغل التي توفّرها المنشأة. إذ يتم الاستعانة بشركات مناولة تستقدم العمال من مدن أخرى، في تنكّر صارخ لمبدأ الأولوية المحلية. شباب المدينة يُقصون بطريقة ممنهجة، فيما تُوزّع فرص التشغيل كما لو كانت امتيازات لا حقوقًا، ويُمنح بعض الفاعلين الجمعويين صكوك الصمت مقابل بعض الفُتات، في سياسة يُتهم بها مسؤولو المعمل بتدجين المجتمع المدني وتحويله إلى أداة ترويج صامت.
تصريحات وردية ومبادرات “فيسبوكية”
في الوقت الذي تتفاقم فيه الأوضاع البيئية والصحية والاجتماعية، تخرج إدارة “كوسومار” بتصريحات متلفزة ومنشورات وردية تتحدث عن تشغيل أبناء المنطقة، وتقديم دعم للجمعيات، ومشاريع اجتماعية “مهيكلة”، لكنها لا تتجاوز جدران مواقع التواصل. فلا أثر لمبادرات حقيقية على الأرض، ولا مشاريع مرئية تُشعر المواطن أن له نصيبًا من خيرات الشمندر.
مدينة بلا حدائق ولا ملاعب ولا ثقافة
سيدي بنور، رغم كونها إحدى قلاع إنتاج السكر في المغرب، لا تتوفر على متنفسات خضراء لأطفالها، ولا ملاعب تليق بطموحات شبابها، ولا دعم للمشهد الثقافي الذي يكاد يكون منعدمًا. الفرق الرياضية تعاني من غياب الدعم، المؤسسات التعليمية تفتقر للتجهيزات، الجمعيات الجادة تُقصى، والمجالس المنتخبة لا تجد من يعينها على تلبية حاجيات الساكنة. في المقابل، لا تستفيد المدينة من “الكرم” الذي تتحدث عنه إدارة “كوسومار” في تقاريرها السنوية.
“امتياز” إضافي اسمه الخنز والفوضى
الساكنة تتساءل، بمرارة، عن الفرق بين سيدي بنور وطنجة، بين سيدي بنور والرباط، حيث يُباع السكر بنفس الثمن، لكن بنور وحدها من “تحصد” روائح النتَن، وتدفع ثمن الاختناق البيئي، والفوضى الطرقية، وغياب الشفافية في التشغيل، والتهميش التنموي، والانفصال التام بين أرباح المعمل ومعاناة المواطن.
سؤال للسلطات: متى تتحركون؟
أمام هذا الواقع، يظل السؤال مطروحًا بإلحاح: إلى متى سيستمر صمت المسؤولين أمام معاناة الساكنة؟ وهل يُعقل أن تُترك مدينة بأكملها رهينة لمنشأة صناعية لا تعترف إلا بالأرباح؟ أين هو دور وزارة البيئة، ووزارة الداخلية، والسلطات الترابية؟ بل أين هو البرلمان الذي يُفترض أن ينقل صوت المواطن إلى مؤسسات القرار؟ ومتى ستُفعّل مسؤولية المقاولة المواطنة لا كشعار للتسويق، بل كواجب قانوني وأخلاقي تجاه مدينة تموت اختناقًا كل سنة؟
سيدي بنور لا تطلب الكثير، فقط أن تتنفس هواءً نقيًا، أن ترى أبناءها يشتغلون، أن تتحرك عجلة تنميتها كما تتحرك عربات الشمندر في شوارعها. وهل هذا كثير؟
تعليقات
0