ارفع قلمك… لا ترفع الراية البيضاء .. نحن نكتب بالحبر، وهم يكتبون بالمال… فمن يقرأ؟

محمد ماكري الإثنين 26 مايو 2025 - 20:07

محمد ماكري / مدير نشر جريدة أش واقع

في عالم تتنازع فيه المصالح، وتُشترى فيه الحقائق، لا يزال الصحفي النزيه هو الضحية الأولى، والمقاتل الأخير. المعلومة التي تصلك مجاناً كمتلقٍ، قد تكون كلّفت صحفياً شريفاً الكثير: من صحته، من ماله، من راحته، وربما من حريته.

في عالمٍ تتنازع فيه المصالح، وتُدفن فيه الحقائق تحت ركام التمويل والولاءات، لا يزال الصحفي النزيه هو الجندي المجهول في معركة لا متكافئة: معركة البحث عن الحقيقة في وجه جيش من المأجورين.
في زمن صارت فيه الأقلام تُباع بالكيلو، والحقائق تُفصّل حسب طلب الزبون، لا مكان للصحفي الشريف إلا في الزاوية المظلمة… مُحاصَر، مُحارب، ومقصيّ، لأنه لم يبع ضميره، ولم يدخل سوق النخاسة الإعلامية.
الصحفي الحر يُفتّش عن المعلومة في دهاليز الصمت، يطارد الحقيقة وسط الألغام، يَشقى، يُهان، يُحرم من الدعم، وراء كل رقم حقيقي يُنشر، وكل معلومة تُنتزع من قلب العتمة، هناك صحفي نقيّ لا يملك سوى قلمه وإيمانه. لا مقرات فخمة، لا دعم، لا معدات، لا أظرفة مالية تُغريه، بل فقط ضمير حيّ يقوده في معركة غير متكافئة. أما المرتزق، ذلك الدمية التي تُدار بخيوط الأجهزة، فكل شيء في خدمته: المعلومة تُرسل له بالتوصيل المجاني، الاستدعاءات تصله في ظرف أنيق، والمقابل يُدسّ له في ظرف أثقل من قلمه.

المعلومة التي تصلك كمتلقٍّ ببساطة، وبلا مقابل، قد تكون كلّفت صحفياً حراً الكثير: من وقته، من صحته، من راحته النفسية، وأحياناً من حريته. المعلومة الحقيقية لا تُمنَح، بل تُنتزع بصبر ومخاطرة، على الجهة الأخرى، هناك من لا يتعب ولا يُقصى، من تُسخَّر له الإمكانيات، وتُفتح له الملفات، وتُنسّق له المداخلات، لا لأنه صحفي، بل لأنه تابع، مُسخَّر لخدمة أجندة، لا يبحث عن الحقيقة بل يُسوّق الوهم مقابل المقابل.

المعلومة الحقيقية لا تُمنَح، بل تُنتزع من بين أنياب السلطة، وسكاكين المال. أما صحفي “الأظرفة”، فلا يبحث ولا يتعب ولا يكلّف نفسه حتى السؤال. تُرسل له المعلومة جاهزة مع فاتورة الدفع، يقرؤها كما تُقرأ الإعلانات التجارية، ويقبض مقابلها كأي سمسار رخيص.
النزيه يُمنع من الدخول. يُقصى من التغطية. يُحرم من المعلومة. يُشكك في نواياه. يُصفَّى معنوياً. بينما المرتزق يفتح له الباب، تُهيَّأ له الطاولة، وتُقدَّم له الرواية الرسمية مرفقة بـ”تحية تقدير” على شكل ظرف سمين.
السبق الصحفي عند النزيه مجهود، وعند الآخر مكافأة مُعدّة سلفاً. الأول يدفع من عمره ليصل إلى الحقيقة، والثاني تُرسَل له الأكاذيب ليبثّها في نشرة ممولة. النزيه يُمنع من الدخول. يُقصى من التغطية. يُحرم من المعلومة. يُشكك في نواياه. يُصفَّى معنوياً. بينما المرتزق يفتح له الباب، تُهيَّأ له الطاولة، وتُقدَّم له الرواية الرسمية مرفقة بـ”تحية تقدير” على شكل ظرف سمين.
المعادلة قذرة، مقلوبة، مسمومة ، ليست المعركة مهنية، بل أخلاقية. ليست بين صحفي وصحفي، بل بين من يرى الصحافة رسالة، ومن حولها إلى “صفقة”:

كلما زاد صدق الصحفي… ضاق عليه الخناق.

وكلما اتّسع كذبه… اتّسعت له المساحات

الصحفي النقي لا يملك سوى ضميره وقلمه، يتنقل بين الملفات كمن يتنقل بين فخاخ، بلا حماية، بلا تمويل، بلا ظهر. بينما ذاك “المُهرّج الإعلامي” تُفتح له الأبواب لأنه لا يُزعج، لا يسأل، لا يحقق، فقط يلمّع ويبرر ويهلل مقابل رقم في حسابه البنكي.
ليسوا زملاء، ولا حتى من نفس الفصيلة. الأول صحفي، الثاني بوق. الأول شريف يُهدد، والثاني تابع يُكرَّم.
الأول يُقاتل من أجل أن يعرف الناس، والثاني يقتات من جهلهم.
ما أبخس هذه المهنة حين يعلو فيها صوت البائع على صوت المناضل… وما أوسخ هذا الواقع حين يتحول المرتزقة إلى نجوم، ويُدفن الشرفاء بصمت في الزوايا.
المعادلة غير عادلة… الصحفي الشريف يُقاتل وحيداً، بينما المرتزق يُكافَأ ويُبجَّل. الأول يُطارد لأنه اختار أن يقول “لا”، والثاني يُحتضن لأنه تعوّد أن يقول “نعم” لمن يدفع.
ومع ذلك، يبقى للأحرار شرف المحاولة. لأن المهنة لا تُقاس بعدد الأظرفة، بل بثقل الموقف. والتاريخ لا يكتب أسماء من باعوا أنفسهم، بل يخلّد من رفض أن يبيع قلمه، مهما كان الثمن.
ومع ذلك، سيبقى من يكتب بضميره واقفاً، حتى وإن انحنى من حوله طمعاً أو جبناً. ستبقى الحقيقة غالية، لأن ثمنها يدفعه الشرفاء وحدهم… أما المرتزقة، فهم فقط صدىً لما يُملى عليهم.
ومع ذلك، يبقى في هذا المستنقع رجال ونساء رفضوا أن يتحولوا إلى أدوات، أو ببغاوات، أو كلاب حراسة. ما زالوا يكتبون بدمهم، لا بحبر مدفوع الثمن. يحفرون في الصخر ليصلوك بالحقيقة، بينما غيرهم ينقل لك الأكاذيب على طاولة فاخرة.
تحية لكل من اختار الطريق الأصعب، ورفض أن يتحول إلى خادم أجندة.
وتباً لكل من باع صوته، ولبس ثوب “الصحفي” وهو مجرد موظف عند السلطة أو المقاولة.
ختاما نقوب أن الصحافة لا تُقاس بعدد المتابعين، ولا بعدد الدعوات الرسمية، بل تُقاس بعدد المرات التي كتبت فيها ما يُغضب من يدفع، وما يُزعج من يتحكم.
وإلى كل من لا يزال يحمل قلمه كما يُحمل السلاح، نقول:

لا ترفع الراية البيضاء، فالحقيقة لا تموت، ولو كانت مدفونة تحت أكوام الأظرفة.

تابعوا آخر الأخبار من أش واقع على Google News تابعوا آخر الأخبار من أش واقع على WhatsApp تابعوا آخر الأخبار من أش واقع على Telegram

مقالات ذات صلة

الجمعة 16 مايو 2025 - 00:22

من يبيع ومن يشتري؟ فساد الشهادات ليس خبراً عاجلاً… بل تاريخاً مسكوت عنه لسنوااااات

الخميس 1 مايو 2025 - 23:36

الإسلاميون ورفض الرأي الآخر… عقلية الوصاية لا تموت

الجمعة 28 مارس 2025 - 20:05

ما معنى أن تكون صحفيًا؟

الجمعة 6 ديسمبر 2024 - 21:09

ما قبل “بطاقة الملاعب” وما بعدها